ملخص المقال
أثبت المُدوِّنون الإلكترونيون المصريون أنهم صاروا جزءًا أساسيًّا من المشهد المصري الراهن، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يتجاهلهم. وقد تجلت هذه الحقيقة في
لم يَعُدْ التعتيم أو التجاهل أو التهوين مُمكنًا. وأثبت المُدوِّنون الإلكترونيون (بلوجرز) أنهم صاروا جزءًا أساسيًّا من المشهد المصري راهنًا، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يتجاهلهم. والمؤلم أن هذه الحقيقة رسمت نفسها في سياق حدث مأسوي تمثّل في كارثة «حي الدويقة» الذي دُفن الكثير من أحيائه تحت الصخور الضخمة التي تساقطت عليهم من جبل المُقطّم. ومُجددًا، اندفع ناشطو الإنترنت في بلاد النيل، الذين ظنّ بعضهم أنهم تقاعسوا أو خافوا بأثر من «قرصة الأذن» التي وجّهتها السلطة إليهم بعد إضراب إبريل 2008م، الذي نجحوا في تعميمه باستخدام صفحاتهم الرقمية في موقع «فيس بوك» Face Book. ومن المعلوم مثلاً أن إسراء عبد العال التي حازت لقبي «فتاة الفيس بوك» و«زعيمة الإضراب الإلكتروني»، قد أعلنت توبتها عبر أقنية التلفزة الفضائية، بعد القبض عليها. وبعدها اختفت من الساحة الإلكترونية، وتَنَحّت عن عرشها الافتراضي. ومع انهيار الصخور المميتة في حي «منشية ناصر»، اندفع المئات من «البلوجرز» ليحلّوا محل عبد العال، وساروا سريعًا ليحوزوا عروش الحقيقة الإلكترونية. «الدويقة» تُطلق حراكًا شبكيًّا مع سقوط الصخور على بشر «الدويقة»، عَمّ حال من الحِراك الإلكتروني فضاء الإنترنت، وكأنه جيش استنفرته كارثة انهيار الكتل الصخرية على مئات البيوت و"العِشَش" في «الدويقة» في قلب القاهرة. والمعلوم أن ذلك الحي يندرج ضمن ما يُشار إليه باسم «الأحياء العشوائية»، بل إنه من أفقرها وأشدّها ازدحامًا وأكثرها احتواء على مشكلات ملغومة تتراكم بأثر من الفقر وظروف العيش غير الإنساني. وقد تكاثرت «بيوته» على صخور طفيلية مختلطة مع أقنية غير مُخطّطة لمياه الصرف الصحي. وبعد الكارثة، راجت في القاهرة أقاويل ربطت بين سقوط الصخور وتسرّب مياه الري الناجمة عن مشاريع سكنية فارهة تشيدها شركات استثمارية كبرى. وترافقت «تلك الكارثة الإنسانية التي أصابت سكان الدويقة» بحسب تعبير شائع في الإعلام الرسمي، مع نهج رسمي بات متوقعًا في تغطية المأساة. وتبدى هذا النهج في سلسلة امتدّت من تأكيد رئيس الوزراء أحمد نظيف «عمل الحكومة بسرعة على تسكين المُتضررين من الحادث»، إلى تأكيد وزير التضامن «تقديم المساعدات الفورية اللازمة»، إلى وعد وزير التربية والتعليم بـ «تقديم كل العون لتلاميذ الدويقة» إلى آخر القائمة. وزاد الطين بلّة صدور الصحف الرسمية مُزيّنة صفحاتها الأولى بعناوين على شاكلة «أهالي الدويقة يستقبلون الشُقق بالفرح والزغاريد» و«بعد توجيهات الرئيس مبارك: حُلم الشقق يتحقق لأهالي الدويقة»! ثم جاء تصريح محافظ القاهرة عبدالعظيم وزير بـ «أن القدر سبقنا (المحافظة) بخطوة»، في إشارة إلى أن الوزارة كانت على وشك تسليم الشُّقق لأبناء الدويقة في تاريخ «تصادف» أنه يبعد أسبوعًا عن الكارثة! واستعرض خلافات تاريحية بين المحافظة ووزارة الإسكان خلال العقد المنصرم. بديهي أن نهج الإعلام الرسمي في التعامل مع «الكارثة الإنسانية» لم يعجب الكثيرين، خصوصًا أولئك الباحثين عن الحقائق، بعيدًا من السياسة. ونجم عن ذلك أن استعرت تغطيات «البلوجرز» على الشبكة العنكبوتية، لتُقدم ما يُشبه «الصورة البديلة» عما يحدث داخل المنطقة المنكوبة. والمعلوم أن «الدويقة» تحوّلت خلال أيام قليلة بعد كارثتها، إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، خصوصًا مع الحرص على تأمين سلامة الشخصيات الكبيرة التي تتوافد على المنطقة لتتفقد آثار «الحادث الإنساني»، وكذلك ردّ فعل السكان الذي تراوح بين رشق بالحجارة والضرب على أواني الطبخ. وبذا، انشغلت جهات أمنية بمهمة التدقيق في هوية الداخلين إلى المنطقة. حرص الاعلام الرسمي على بثّ صور جهود رجال الاسعاف المدني لإخراج الضحايا من تحت الأنقاض، وزيارات كبار رجال الدولة لوضع خطط تقديم المساعدات، ومُعدّات رفع الأنقاض. وفي المقابل، أظهرت المُدوّنات صور حقيقة ما يجري في المنطقة التي أُضيفت الصخور إلى ابتلائها بالفقر والظروف المعيشية القاسية. وإذ أذيعت تقارير فضائية «الجزيرة» من داخل أنقاض «الدويقة» بضع مرات على شاشة تلك القناة التي لا يتابعها الجميع، سجلها بعض نشطاء «البلوجرز» وحمّلوها في ملفات على موقع «يو تيوب» YouTube. وبذلك، أضحت متاحة لجمهور واسع، من ضمنه أولئك الذين ضاقوا ذرعًا بمشاهدة زيارات المسئولين وزغاريد السكان الذين حصلوا على شقق! وفي حسّ الملسوع من قسوة الرياء، عمد بعض «البلوجرز» إلى تصدير الصفحات الإلكترونية بكلمات زعيم الغالبية في مجلس الشعب (البرلمان) المصري الدكتور محمد رجب لمراسل «الجزيرة» من «الدويقة» بأن «أرواح الناس لا يمكن أن تذهب هباء أبدًا»، وتعليق المراسل عليها بالقول: «هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة». وكتب أحد المدونين هذه الكلمات في المعنى نفسه «اخرج بره الحدود، وإياك تعود، تعود لمين ولإيه وفين، مش محتاجاك، ولا الأماكن, ولا البيوت. ما لكش فيها مكان. يا قطر تدهسك عجلاته، يا في عبارة، وبحر تاكلك سمكاته، يا صخرة من فوق جبل، تقع عليك تدهسك، وانت نايم ناوي تصوم، وليه من النوم تقوم؟ حقك؟ عمره ما كان حقك، ولا في يوم حيكون». رياح معلومات الإنترنت توّلت مجموعة من الجمعيات الحقوقية نشاطًا عنكبوتيًّا من نوع آخر، إذ نشرت على صفحاتها الإلكترونية البيانات الصحافية الشاجبة للإهمال والتراخي في تسليم الشقق البديلة، سواء قبل وقوع الكارثة أو بعدها. وصوّر «مركز هشام مبارك للقانون» فيلم فيديو من «الدويقة»، ثمّ حمّله على الموقع الشبكي للمركز. وخصّصت مُدوّنة مالك مصطفى «مالك-إكس.نت» malek-x.net المعروفة بعلو صوتها في انتقاد النظام، مجموعة من الصفحات الإلكترونية لمتابعة مجريات الكارثة. ووجّهت نداء للتضامن مع اعتصام أهالي «الدويقة» أمام مبنى محافظة القاهرة احتجاجًا على عدم تسلمهم الشُقّق البديلة التي وعدتهم بها المحافظة عقب الكارثة. وعنيت بإظهار معاناة أسرة قالت إنها طُردت بعد تسلمها شقة بدعوى «عدم الاستحقاق»! وأحدث ما كتبته في شأن الكارثة حديث عن «إصابة أكثر من مائة طفل من الدويقة بأعراض «غريبة»، تراوحت بين الإسهال والطفح الجلدي... وقيل لهم في المستشفى: إنه نوع من الأوبئة». وإذا كانت الشهادات العنكبوتية تحتمل الصواب والخطأ، فإن ناشطين آخرين مالوا إلى إبراز الأعمال الخيّرة. فبعد ساعات من وقوع كارثة الانهيار، نشأت مجموعات لجمع التبرعات، وتقديم شتى أنواع الدعم من ملابس وغذاء ومال إلى المنكوبين. وفي نشاط متصل، ظهر على موقع «فيس بوك»، ما يزيد على 52 حسابًا عن الكارثة، أغلبها لمجموعات تطالب بإقالة محافظ القاهرة، أو بإقالة الحكومة برمّتها. وهناك من أسس مجموعة للعمل على المطالبة بوضع حل نهائي لقنبلة الأحياء الموقوتة. وشكّل آخرون «لجنة دعم ضحايا الدويقة». الأرجح أن قلّة من أهل «الدويقة» تطلع على الإنترنت، ما يعني أن الجدل الدائر حول كارثتهم يدور في أروقة بعيدة منهم جغرافيًّا وتقنيًّا. ولا يمنع ذلك أن الحِراك الرقمي نجح في فتح أقنية بديلة للحوار وآفاق غير تقليدية للتفكير فيما قد يكون دائرًا في قلب القاهرة، بعيدًا من نشرات الأخبار الرسمية على الأقنية الأرضية. من جهة أخرى، أعاد الحِراك العنكبوتي حول كارثة الدويقة «غير الإنسانية» مُجدّدًا إثبات نظرية استحالة الوقوف في وجه رياح حرية المعلومات الإلكترونية، حتى لو جانبها الصواب أو عابها التحيز أو التطرف. واللافت أن رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف أذهل المدونين قبل فترة قصيرة بكتابته تعليقًا في مُدوّنة مُعارضة «لينين 1917. بلوغ سبوت. كوم» lenin1917.blogspot.com ردًّا على انتقادات لسياسة حكومته الاقتصادية وتوجهاتها في التعليم. وذكّرت تلك المبادرة بما فعله قبل عامين الأمين العام للجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم جمال مبارك، الذي خاض حوارًا مع «المواطنين» عبر موقع الحزب على الإنترنت. وتشتهر الإنترنت بميلها للتعارض مع ما يجري في الواقع «الفعلي». وبذا، جاء نشاط مجموعات شبابية عملت على نشر إعلانات ضخمة في الشوارع تقول: «الشباب الجَد بيبني مش بيهِد»، ردًّا على الشبيبة الذين قادوا إضرابي نيسان (إبريل) وأيار (مايو) المنصرمين. من يدري؟ فلربما ظهر قريبًا مسئولون ونواب على هيئة مجموعات على الـ «فيس بوك» أو «بلوجرز»؛ ليدافعوا عما فعلته الحكومة تجاه كارثة «الدويقة». الحياة اللندنية 26/ 9/ 2008م
التعليقات
إرسال تعليقك